نسمة الإسلام نــائب المديــــر
عدد الرسائل : 1266 العمر : 40 العمل : القراءة - الخيل - الشطرنج تاريخ التسجيل : 21/11/2009
| موضوع: أحـــلام الإثنين نوفمبر 23, 2009 4:04 pm | |
| علي ضفاف النيل .. في ليلة ساد فيها السكون، وعم الصمت .. وسرى الفتور في أعضاء الكون، فأخلدت الكائنات إلي الدعة، حتى النسيم كف عن السريان، فما عاد يسمع لأوراق الشجر حفيف ولا خشخشة .. وبدت الطبيعة كأنها في غفوة، أو في إغماء ... فكل ما فيها، وما حولها، راكد لا حراك به خامد لا حياة فيه. وأنساب الزورق علي صفحة الماء الملساء المنبسطة .. وأخذ المجداف يتحرك بين يدي الملاح، فيمس الماء في لين ويشقه في رفق كأنما كان الرجل يخشى أن يفيق الكون من هجعته، ويستيقظ من ضجعته. وألقى الزورق مرساه علي الشاطئ، أمام كوخ منفرد متواضع .. وربط الملاح زورقه في جذع شجرة، وخطا ببطء نحو الكوخ، وقد أخذ يدندن في صوت خافت، إحدى الأغنيات الجميلة الهادئة. ب قوته من نقل الناس من شاطئ إلي آخر ... أو تهيئة نزهات قصيرة لهم في عرض النهر .. وكان أصحاب القصر القائم أمام كوخه في الشاطئ الآخر كثيراً ما ينفحونه بهبات جزيلة، لقاء بعض الخدمات التي يؤديها لهم، أو مكافأة له علي الخروج بهم في ليالي الصيف المقمرة للنزهة في النيل. ولم يكن الفتى في قراره نفسه ليقنع بعمله هذا، أو يرضي عنه .. فقد كان يحس أنه لم يخلق لأداء مثل هذا العمل التافه، وكان موقناً أن حياته لا يمكن أن تستمر علي هذه الوتيرة، وأنه لابد مرتفع إلي حيث ينبغي أن يكون. ولكن الأيام كانت تمر، والفتى كما هو .. يضرب الماء بمجدافه في سكون وتؤدة، حائراً بين الشاطئين، شادياً مترنماً، يأوي آخر النهار مرقده في كوخه الحقير. وكان الفتى علي حق في ظنه بنفسه .. ولم يكن ما به غروراً أو ادعاء ... فقد كان فتى عجيب الخلق في باطنه وظاهره. أما ظاهرة فقد جمل الله خلقه .. إذ كان وسيم الوجه، جذاب الملامح، طويل القامة، مفتول العضلات، فمن حيث مظهره لوضعه موضع ملك من الملوك أو أمير من الأمراء .. أما في باطنه فقد كان ذكى الفؤاد، صادق الحس ... شاعري النفس، مرهف الشعور .. يستهويه الفن .. ويحب الجمال. وكان الفتى يحس أن الشعور الذي بداخله يذهب هباء .. فقد كانت رقة حاله، وحقارة عمله، تطغي عليه، فتخمده كما تخمد الجمرة بحفنة من الثرى. كان الفتى بعيد مدى الخيال، فبدأ يقنع من حقيقة الحياة بأحلامها، وأخذ ينطوي علي نفسه ويعيش بها في عالم آخر رسمه هو كما يود أن يكون، وأحس السعادة تغمره، فقد وضع نفسه فيما تتمني أن توجد فيه .. وأنصفها وبدأ يعيش بها في جو جميل من الأوهام، وقصور بللورية من أحلام عذبه وشاعرية لها أنواراً ساطعة لامعة براقة. وأخذ الفتى يطير علي أجنحة الوهم إلي عالم الخيال .. فنال كل ما كان يحام به .. وكان يقضى طيلة يومه في مرح وغناء، وكان عذب الصوت شجيه، حتى إذا ما أقبل الليل عاد إلي كوخه، فامتطى الشجرة العجوز التي تحنو عليه، وأسند ظهره إلي أحد فروعها، ورنا ببصره إلي السماء، سابحاً بين النجوم، واستغرق في أحلامه، حاملاً نفسه إلي دنيا أخرى تحقق أمانيه. وفي ذات ليلة رسا بزورقه أمام القصر وكان القمر يسطع في كبد السماء، وأهل القصر يبغون النزهة .. وكان الفتى يصلح المجداف في موضعه عندما أحس شخصاً يقفز إلي الزورق، فنظر خلفه، فإذا بابنة صاحب القصر قد جلست في مؤخرة الزورق وحياها الفتى، ثم وقف ينظر .. فسألته الفتاة: - ماذا تنتظر؟ - البقية يا سيدتي. - البقية لن تأتي .. فأبي مشغول .. وأمي متوعكة. وبدأ الزورق يسير، وقدران علي راكبيه صمت عميق ... ولاحظ الفتى أن الفتاة مطرقة يبدو عليها الوجود والحزن فقطع حبل الصمت بسؤاله: مالسيدتى الليلة يبدو عليها الحزن .. ترى هل هناك ما سبب كدرها؟ وصمتت الفتاة برهة .. فقد كانت راغبة عن الحديث .. ولكنها لم تكن تود أن تسئ إلي الفتى .. فأجابته في اقتضاب: - وهل تخلو الحياة مما يسبب الكدر؟! - أي حياة تقصد سيدتي؟ إذا كانت تقصد حياة أمثالنا فهي لا شك لن تخلو من الكدر، لأنها مليئة به .. أما حياتكم أنتم فلا أدري من أين يأتيها الكدر! - لا فرق بين حياة وحياة .. فالكدر موجود هنا وموجود هناك. - علي كل حال يا سيدتي، إذا كان لديك ما يسبب كدرك، فأفضل طريق للتغلب عليه، هو أن تفعلي مثل ما أفعل. ولم تتمالك الفتاة نفسها من الضحك وسألته في تهكم: - وماذا تراك تفعل؟ - مادام لدى المرء شجرة، وفي السماء نجوم، فكل ما في النفس من أحزان وأشجان يمكن أن يصبح في لمح البصر هشيماً تذروه الرياح. ونظرت الفتاة إلي صاحبنا الملاح في عجب، وخيل إليها أن الفتى قد احتسى شيئاً فأخذ يهذي بما لا يعي. ولكن الفتى أردف متمماً حديثه: - لست أقول إلا الصدق، ما رأيت هناك أنجع من طريقتي هذه في إزالة الهموم .. ففي كل ليلة عندما أعود إلي الكوخ، اسند ظهري إلي الشجرة العجوز الوفية، وأسبح ببصري في نجوم السماء، فأنسى دنيانا هذه، وأنتقل إلي عالم آخر فيه كل ما افتقدته في عالمنا، وأحصل منه علي كل ما حرمته في هذه الدنيا .. كم من ليلة مرت علىَ وأنا ملك متوج، يحف به الأمراء والكبراء، ويخضع أمامي الجميع .. وكم من ليلة كنت فيها قوياً باطشاً، ترهبني الجبابرة، وتخشاني الأسود الكاسرة .. وكم من ليلة عشت بين الغيد الحسان، والأطعمة الشهية... ما تمنيت شيئاً إلا وحصلت عليه في عالم الأماني، وما أزعجني أمر إلا ونسيته في دنيا الأحلام .. وهكذا ترينني يا سيدتي لا أفيق من الأحلام إلا ونفسي خالصة من كل ما يشوبها من كدر وحزن. وكانت الفتاة تنصت إليه، فلما أنتهى من الحديث هزت رأسها في بطء وقالت: ، حتى تجد نفسك قد هويت من حالق، فإذا بك حيث كنت لا حيث أردت أن تكون .. وإذا بشعورك بالحرمان يشتد عن ذي قبل. - هذا هو الطمع بعينه .. ألا يكفي أن نسعد بالأحلام سعادة دائمة ... وأي شيء من الحقائق نجع بناها في الخيال؟! ويكفي أني عشت بها حقاً زمناً رغداً، وهذا هو كل ما أريد. وأعاد الملاح الفتاة إلي دارها، وكان قد سرى عنها، وذهب ما بنفسها من حزن فودعته وهي تقول ضاحكة: - ترى ماذا ستكون الليلة ملكاً؟ أم قاهر جبابرة وأسود؟ - لا يا سيدتي، لقد فرغت من تلك الأماني .. إن عندي أماني جديدة أحلي. وخرجت الفتاة بعد ذلك عدة مرات تتنزه مع الملاح فأطربها حديثه، وأعجبتها آراؤه. وفي ذات ليلة، والزورق ينساب في هدوء، وكل ما في الكون يبعث في النفس راحة وفي الفؤاد بهجة وحبورا .. سألت الفتاة الملاح: فوق شجرتك العجوز وتحت نجوم السماء. وأطرف الفتى برهة، ثم رفع رأسه وسألها: - أتريدين الصدق؟ - لو لم أكن أريده لما سألتك شيئاً!! - إن آخر أمنياتي الجامحة المجنونة ... أمنية أعلم أن القدر قد أبعدها عنى، كما أبعد هذه النجوم التي تلمع في السماء .. تلك هي حب فتاة .. سأقول لك الحق كله .. فكما أنني لا أخشي أن يعلم الملك أنني أحلم أن أكون ملكاً .. لأنه سيضحك ملء شدقيه، فكذلك لا أخشي أن أقول لك إن هذه الفتاة هي أنت .. لأن مجرد خيال أو أمنية .. لا تستحق منكِ إلا الضحك .. أما كيف حققت هذه الأمنية، فعشت بها في الأحلام زمناً رغداً، فذلك ما أقصه لك علي سبيل التسلية والفكاهة. تخيلت أني رحلت إلي بلاد بعيدة نائية .. ثم عدت منها بجيش عجيب من الفيلة الضخمة الهائلة، وغزوت بها هذه البلاد، والتقيت بجيوش الملك، فحطمتها الفيلة وصرعتها في غمضة عين.. وصرت ملك البلاد وأمرت رجالي أن يسبقوني إلي القصر الملكي .. وامتطيت ظهر أحد الفيلة، وذهبت إلي النيل وتركت الفيل بعيداً حتى لا يخيف الفتاة ثم قفزت من سور الحديقة، فإذا بها قد جاست وحيدة في إحدى الشرفات وكان جمالها فياضاً وسحرها لا يقاوم، وقد بدأ علي وجهها الهدوء الذي عشقته فيها .. ودهشت الفتاة حينما رأتني، وبدا لي أنها تحبني هي الأخرى فقصصت عليها القصة وطلبت إليها أن تكون ملكة وشعرت بالسعادة تملأ جوانحي عندما أخبرتني أنها تفضل أن تكون زوجتي قبل أن تكون ملكة. ولم يكد ينتهي الملاح من قصته، حتى استغرقت الفتاة في الضحك وكان الزورق قد وصل إلي الدار فقفزت الفتاة وحيت الملاح قائلة: - لم أر ألطف من الطريقة التي تحقق بها أمانيك .. ولكنك في الواقع تبالغ كثيراً .. فالمسألة لم تكن تحتاج إلي فيلة ولا جيوش ولا صراع ولا قتال! واختفت الفتاة في الظلمة، وعاد الفتى يشق الماء بزورقه. وأثبتت الأيام للفتى بعد ذلك أنه بالع حقاً في الطريقة التي حقق بها أمنيته في الخيال .. فقد رأي أنها تحققت في الواقع ورأي نفسه يقفز السور حقاً ويجلس مع الفتاة في الشرفة وهما في قمة الحب دون حاجة إلي أن يأتي إليها علي ظهر فيل مع جيشه الضخم فقد كان يأتي بزورقه المتواضع وقد كان ولا يزال كما هو ملاحاً فقيراً. وأحبت الفتاة الملاح وغمرها عشقه وكانت تشعر أن حياتها قد خلت إلا من هذا الملاح فهي لا تري غيره سواء غاب أو حضر .. وكانت تشعر بالسعادة طيلة يومها، لا لشيء إلا لأنها ستلقاه في المساء. وفي ذات ليلة تأخر الفتى عن موعده فقلقت الفتاة ثم سمعت في الخارج بعض الضجيج فأرسلت خادمتها لتستجلي الأمر .. فعادت الخادمة بعد لحظة وأنبأتها أن الحراس قد وجدوا لصاً يحاول تسلق السور .. وأنه حاول الفرار فصوب إليه أحدهم سهماً أرداه صريعاً وهم يقولون إن اللص لم يكن سوى الفتى الملاح! وذهلت الخادمة عندما رأت سيدتها تهوي إلي الأرض لا حراك بها وقد علت وجهها صفرة مخيفة. وسرت بين القوم بعد ذلك إشاعة أن ابنه صاحب القصر قد أصابها مس من جنون، فهي أبداً ذاهلة واجمة، تائهة شاردة .. لا تنطق ولا تتكلم إلا ساعة من ساعات المساء عندما تذهب إلي إحدى الشرفات تنظر منها إلي الحديقة كأنها تنتظر شيئاً ثم تأخذ في التحدث إلي نفسها بصوت هامس خافت. وتكلمت الفتاة لأول مرة فطلبت أن يأتوها بأحد القوارب وسار القارب بالفتاة الحزينة الذاهلة حتى وقف أمام كوخ الملاح، فنزلت الفتاة ورأت الكوخ قد علاه البلي والخراب والشجرة العجوز قد دب فيها الفناء. واقتربت الفتاة من الشجرة الجرداء الذابلة الأغصان المتساقطة الأوراق حتى أسندت إليها ظهرها وتطلعت ببصرها إلي النجوم المتناثرة في السماء وفي سكون الليل الرهيب انبعث صوت الفتاة المجنونة يسري في الظلمة هامسة في شبه نحيب: - أما من عزاء! أما من صبر! هنا كان يقف وإلي هناك كان يتطلع .. كانت الشجرة تحنو عليه والنجوم تسمع شكواه وتبدد أحزانه .. كان يقول لي .. مادام لدى المرء شجرة وفي السماء نجوم فكل ما في النفس من أحزان وأشجان يمكن أن يصبح في لمح البصر هشيماً تذروه الرياح، وكنت لا أجده مبالغاً في أقواله.. فقد كنت اشعر أن هناك شيئاً في الحياة يمكن أن ينسينا أحزاننا ويذهب بالآمنا في لمح البصر، وكنت أنا نفسي أجد ذلك الشيء في بريق عينيه وفي قوة إيمانه .. كانت عيناه هي نجومي وكان إيمانه هو شجرتي .. فلما انطفأت نجومي وهوت شجرتي .. أحسست بالحنين إلي نجومه وشجرته علها تبدد أحزاني وتشد أزري ولكن حتى هذه قد خذلتني .. أين العزاء .. إذا كانت الشجرة نفسها قد أذبلها الحزن وأودى بها الجوى، أين السلوان والنجوم المتلألئة باتت وكأنها تلمع بقطرات الدموع | |
|
أ.إسلام مندور مديــــر المنتـــــدى
عدد الرسائل : 964 العمر : 42 العمل : الدعوى الى الله تاريخ التسجيل : 30/01/2009
| موضوع: رد: أحـــلام الإثنين نوفمبر 23, 2009 8:06 pm | |
| جراكى الله كل خير موضوع جميل واسمه كمان جميل احلام
| |
|