الدلالة اللغوية:1. (نفذ): يقال في العربية: (نفذ) السهم في الرمية (نفوذا) و(نفاذا), والمثقب في الخشب إذا خرق إلي الجهة الأخرى, و(نفذ) فلان في الأمر (ينفذ) (نفاذا), و(أنفذه) (نفاذا), و(نفذه) (تنفيذا), وفي الحديث الشريف: نفذوا جيش أسامة; والأمر (النافذ) أي المطاع, و(المنفذ) هو الممر (النافذ), قال ـ تعالي ـ: إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان) بمعني أن تخرقوا السماوات والأرض من جهة أقطارها إلي الجهة الأخرى.
2. (أقطار): قطر كل شكل وكل جسم الخط الواصل من أحد أطرافه إلي الطرف المقابل مرورا بمركزه. قال (تعالي): إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض وقال (عز من قائل): (ولو دخلت عليهم من أقطارها) (الأحزاب: 14)؛ ويقال في اللغة: (قطرته) بمعني ألقيته علي (قطره), و(تقطر) أي وقع علي (قطره), ومنه (قطر) المطر أي سقط في خطوط مستقيمة باتجاه مركز الأرض, ويسمي لذلك (قطرا), وهو كذلك جمع (قطرة), و(قطر) و(تقطير) الشيء تبخيره ثم تكثيفه قطرة قطرة من أجل تنقية الماء وغيره من السوائل تساقطه (قطرة) (قطرة) وجمعه (قطر) بضمتين و(قطرات) بضمتين أيضا, و(قطره) غيره يتعدي ويلزم, و(تقاطر) القوم جاءوا أرسالا (كالقطر), ومنه (قطار الإبل) و(القطر) بالضم الناحية والجانب وجمعه (أقطار)؛ و(قطران) الماء (تقاطره) قطرة قطرة و(القطران) ما يتقطر من الهناء (=القار) و(قطر) البعير طلاه (بالقطران) فهو (مقطور) أو (مقطرن). قال (تعالي): (سرابيلهم من قطران) (إبراهيم:50) أي من القار, وقرئ (من قطر آن) أي من نحاس منصهر قد أني (أي عظم) حره (أي زادت درجة حرارته) لأن (القطر) هو النحاس. وقال ربنا تبارك وتعالى: (إتوني أفرغ عليه قطرا) (الكهف:96) أي نحاسا منصهرا.) اللهب الذي لا دخان له.
4. نحاس: الأصل في اللغة العربية أن النحاس هو اللهب بلا دخان, والنحاس أيضا عنصر فلزي لونه يميل إلي الحمرة (بين القرمزي والبرتقالي) قابل للطرق والسحب, موصل جيد لكل من الكهرباء والحرارة, ومقاوم للتآكل, وقد سمي بهذا الاسم لتشابه لونه مع لون النار بلا دخان.
قال (تعالي): (يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس) (الرحمن :35). و(النحس) ضد السعد, وقرئ في قوله تعالي: (في يوم نحس مستمر) (القمر: 19).
علي الصفة, والإضافة أكثر وأجود... في يوم نحس مستمر، ويقال: (نحس) الشيء فهو (نحس) وفيه جاء قول ربنا ـ تبارك وتعالى: (فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات) (فصلت: 16) وقرئ (نحسات) بالفتح أي مشؤومات, أو شديدات البرد وأصل النحس أن يحمر الأفق فيصير كالنحاس أو كاللهب بلاد خان, فصار ذلك مثلا للشؤم.
أقوال المفسرين:في تفسير قوله (تعالي):
(يَا مَعْشَرَ الجِنِّ وَالإنسِ إنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إلاَّ بِسُلْطَانٍ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ) (الرحمن:33 ـ 35) ذكر ابن كثير (يرحمه الله): أي لا تستطيعون هربا من أمر الله وقدره, بل هو محيط بكم لا تقدرون علي التخلص من حكمه, أينما ذهبتم أحيط بكم.... (إلا بسلطان) أي إلا بأمر الله.... ولهذا قال تعالي: (يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران) قال ابن عباس: الشواظ هو لهب النار, وعنه: الشواظ الدخان, وقال مجاهد: هو اللهب الأخضر المنقطع, وقال الضحاك: (شواظ من نار) سيل من نار, وقوله تعالي: (ونحاس) قال ابن عباس: دخان النار, وقال ابن جرير: والعرب تسمي الدخان نحاسا, روي الطبراني عن الضحاك أن نافع ابن الأزرق سأل ابن عباس عن الشواظ فقال: هو اللهب الذي لا دخان معه... قال: صدقت, فما النحاس؟ قال: هو الدخان الذي لا لهب له وقال مجاهد: النحاس الصفر....
وجاء في تفسير الجلالين ما نصه: (يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا) تخرجوا (من أقطار) نواحي (السماوات والأرض) (هاربين من الحشر والحساب والجزاء) (فانفذوا) أمر تعجيز (أي: فلن تستطيعوا ذلك) (لا تنفذون إلا بسلطان) بقوة, ولا قوة لكم علي ذلك... (يرسل عليكما شواظ من نار) هو لهبها الخالص من الدخان أو: معه (ونحاس) أي: دخان لا لهب فيه (أو هو النحاس المذاب....).
وجاء في الظلال ما نصه: يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا... وكيف؟ وأين؟ لا تنفذون إلا بسلطان, ولا يملك السلطان إلا صاحب السلطان.. ومرة أخري يواجههما بالسؤال: (فبأي آلاء ربكما تكذبان؟) وهل بقي في كيانهما شئ يكذب أو يهم بمجرد النطق والبيان؟
ولكن الحملة الساحقة تستمر إلي نهايتها, والتهديد الرعيب يلاحقهما, والمصير المردي يتمثل لهما: يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران..
وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن ما نصه:..... (لا تنفذون إلا بسلطان) أي لا تقدرون علي الخروج من أمري وقضائي إلا بقوة قهر وأنتم بمعزل عن ذلك, (يرسل عليكما) يصب عليكما (شواظ من نار) لهب خالص من الدخان (ونحاس) أصفر مذاب, وقيل النحاس: الدخان الذي لا لهب فيه. أي إنه يرسل عليهما هذا مرة وهذا مرة.
وجاء في المنتخب في تفسير القرآن الكريم ما نصه: يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تخرجوا من جوانب السماوات والأرض هاربين فاخرجوا, لا تستطيعون الخروج إلا بقوة وقهر, ولن يكون لكم ذلك, فبأي نعمة من نعم ربكما تجحدان؟! يصب عليكما لهب من نار ونحاس مذاب, فلا تقدران علي رفع هذا العذاب. وجاء في تعليق هامشي ما يلي: ثبت حتى الآن ضخامة المجهودات والطاقات المطلوبة للنفاذ من نطاق جاذبية الأرض, وحيث اقتضي النجاح الجزئي في ريادة الفضاء ـ لمدة محددة جدا بالنسبة لعظم الكون ــ بذل الكثير من الجهود العلمية الضخمة في شتي الميادين... فضلا عن التكاليف المادية الخيالية التي أنفقت في ذلك ومازالت تنفق, ويدل ذلك دلالة قاطعة علي أن النفاذ المطلق من أقطار السماوات والأرض التي تبلغ ملايين السنين الضوئية لإنس أو جن مستحيل.
والنحاس هو فلز يعتبر من أول العناصر الفلزية التي عرفها الإنسان.. ويتميز بأن درجة انصهاره مرتفعة جدا نحو 1083 درجة مئوية) فإذا ما صب هذا السائل الملتهب علي جسد, مثل ذلك صنفا من أقسي أنواع العذاب ألما وأشدها أثرا.
الدلالة العلمية لقول الحق ـ تبارك وتعالى ـ :(يَا مَعْشَرَ الجِنِّ وَالإنسِ إنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إلاَّ بِسُلْطَانٍ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ) (الرحمن:33 ـ 35)
هذه الآيات الثلاث التي تحدي القرآن الكريم فيها كلا من الجن والإنسن تحديا صريحا بعجزهم عن النفاذ من أقطار السماوات والأرض, وهو تحد يظهر ضآلة قدراتهما مجتمعين أمام طلاقة القدرة الإلهية في إبداع الكون, لضخامة أبعاده, ولقصر عمر المخلوقات, وحتمية فنائها, والآيات بالإضافة إلي ذلك تحوي عددا من الحقائق الكونية المبهرة التي لم يستطع الإنسان إدراكها إلا في العقود القليلة المتأخرة من القرن العشرين, والتي يمكن إيجازها في النقاط التالية:
أولا: بالنسبة للنفاذ من أقطار الأرض:إذا كان المقصود من هذه الآيات الكريمة إشعار كل من الجن والإنس بعجزهما عن النفاذ من أقطار كل من الأرض علي حدة, والسماوات علي حدة, فإن المعارف الحديثة تؤكد ذلك, لأن أقطار الأرض تتراوح بين (12756) كيلو مترا بالنسبة إلي متوسط قطرها الاستوائي, (12713) كيلو مترا بالنسبة إلي متوسط قطرها القطبي, وذلك لأن الأرض ليست تامة الاستدارة لانبعاجها قليلا عند خط الاستواء, وتفلطحها قليلا عند القطبين.
ويستحيل علي الإنسان اختراق الأرض من أقطارها لارتفاع كل من الضغط والحرارة باستمرار في اتجاه المركز مما لا تطيقه القدرة البشرية, ولا التقنيات المتقدمة التي حققها إنسان هذا العصر, فعلي الرغم من التطور المذهل في تقنيات حفر الآبار العميقة التي طورها الإنسان بحثا عن النفط والغاز الطبيعي فإن هذه الأجهزة العملاقة لم تستطع حتى اليوم تجاوز عمق 14 كيلو مترا من الغلاف الصخري للأرض, وهذا يمثل0,2% تقريبا من طول نصف قطر الأرض الاستوائي, وعند هذا العمق تعجز أدوات الحفر عن الاستمرار في عملها لتزايد الضغط وللارتفاع الكبير في درجات الحرارة إلي درجة قد تؤدي إلي صهر تلك الأدوات, فمن الثابت علميا أن درجة الحرارة تزداد باستمرار من سطح الأرض في اتجاه مركزها حتى تصل إلي ما يقرب من درجة حرارة سطح الشمس المقدرة بستة آلاف درجة مئوية حسب بعض التقديرات, ومن هنا كان عجز الإنسان عن الوصول إلي تلك المناطق الفائقة الحرارة والضغط, وفي ذلك يقول الحق ـ تبارك وتعالى ـ مخاطبا الإنسان: (وَلا تَمْشِ فِى الأَرْضِ مَرَحًا إنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الجِبَالَ طُولاً) (الإسراء:37)
ولو أن الجن عالم غيبي بالنسبة لنا, إلا أن ما ينطبق علي الإنس من عجز تام عن النفاذ من أقطار السماوات والأرض ينطبق عليهم.
والآيات الكريمة قد جاءت في مقام التشبيه بأن كلا من الجن والإنس لا يستطيع الهروب من قدر الله أو الفرار من قضائه, بالهروب إلي خارج الكون عبر أقطار السماوات والأرض حيث لا يدري أحد ماذا بعد ذلك, إلا أن العلوم المكتسبة قد أثبتت بالفعل عجز الإنسان عجزا كاملا عن ذلك, والقرآن الكريم يؤكد لنا اعتراف الجن بعجزهم الكامل عن ذلك أيضا, كما جاء في قول الحق ـ تبارك وتعالى ـ علي لسان الجن: (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا) (الجن: 12) وذلك بعد أن قالوا: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا) (الجن:
ثانيا: بالنسبة للنفاذ من أقطار السماواتتبلغ أبعاد الجزء المدرك من السماء الدنيا من الضخامة ما لا يمكن أن تطويها قدرات كل من الإنس والجن, مما يشعر كلا منهما بضآلته أمام أبعاد الكون, وبعجزه التام عن مجرد التفكير في الهروب منه... أو النفاذ إلي المجهول من بعده...!!!
فمجرتنا (سكة التبانة) يقدر قطرها الأكبر بمائة ألف سنة ضوئية (100.000*9.5 مليون مليون كيلو متر تقريبا), ويقدر قطرها الأصغر بعشرة آلاف سنة ضوئية (10.000*9.5 مليون مليون كيلو متر تقريبا), ومعني ذلك أن الإنسان لكي يتمكن من الخروج من مجرتنا عبر قطرها الأصغر يحتاج إلي وسيلة تحركه بسرعة الضوء (وهذا مستحيل) ليستخدمها في حركة مستمرة لمدة تصل إلي عشرة آلاف سنة من سنيننا, وبطاقة انفلات خيالية لتخرجه من نطاق جاذبية الأجرام التي يمر بها من مكونات تلك المجرة, وهذه كلها من المستحيلات بالنسبة للإنسان الذي لا يتجاوز عمره في المتوسط خمسين سنة, ولم تتجاوز حركته في السماء ثانية ضوئية واحدة وربع الثانية فقط, وهي المسافة بين الأرض والقمر, علي الرغم من التقدم التقني المذهل الذي حققه في ريادة السماء.
ومجموعتنا الشمسية تقع من مجرتنا علي بعد ثلاثين ألفا من السنين الضوئية من مركزها, وعشرين ألفا من السنين الضوئية من أقرب أطرافها, فإذا حاول الإنسان الخروج من أقرب الأقطار إلي الأرض فإنه يحتاج إلي عشرين ألف سنة وهو يتحرك بسرعة الضوء لكي يخرج من أقطار مجرتنا وهل يطيق الإنسان ذلك؟ أو هل يمكن أن يحيا إنسان لمثل تلك المدد المتطاولة؟ وهل يستطيع الإنسان أن يتحرك بسرعة الضوء؟ كل هذه حواجز تحول دون إمكان ذلك بالنسبة للإنسان, وما ينطبق عليه ينطبق علي عالم الجان...!!!