أ.إسلام مندور مديــــر المنتـــــدى
عدد الرسائل : 964 العمر : 42 العمل : الدعوى الى الله تاريخ التسجيل : 30/01/2009
| موضوع: ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الإثنين فبراير 23, 2009 8:44 am | |
|
قال تعالى: “ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك ورفعنا لك ذكرك فإن مع العسر يسْراً إن مع العسر يسْراً فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب” (سورة الشرح).
ترتبط هذه السورة بسورة الضحى قبلها ارتباطا وثيقا، حيث تلمس فيها أنسام اللطف، والطاف الود، ومشاعر الرعاية والتكريم لرسول الله صلى الله عليه وسلم فالسورة لمسة حنان للرسول عليه الصلاة والسلام وإعلان تكريم للحبيب صلى الله عليه وسلم.
ومما استخدمته البلاغة القرآنية لتحقيق هذا المعنى ما يرى في قوله تعالى: “ألم نشرح لك صدرك” حيث تبدأ السورة بهذا الاستفهام التقريري، لتذكير الرسول صلى الله عليه وسلم بكلأ الله له، وعظيم رعايته لشخصه الكريم، ويسوق البرهان على ذلك بشرح صدره الشريف واتساعه لدعوة الله تعالى وإقباله عليها في موفور همة ونشاط نفس من دون كلل أو ملل، وما ذلك إلا بتيسير الله تعالى وتوجيهه وتوفيقه.
وأوثر أسلوب الاستفهام الانشائي على الأسلوب الخبري، حيث لم يقل مثلا: “قد شرحنا لك صدرك” لما في الاستفهام من قوة الاثبات، وايقاظ المشاعر، والايماء الى طلب الجواب، لتمكين المعنى في النفس وتثبيته.
والتعبير عن ثبوت الشرح بالاستفهام التقريري، للإيذان بأنه من الوضوح والجلاء بحيث لا ينكر، ولا يقدر أحد إلا أن يرفع راية الإذعان بالإقرار والاجابة ب “بلى”، وعلى هذا فدخول الاستفهام على النفي كان سبيل المبالغة في اثباته.
والاتيان بنون العظمة في “نشرح”، للدلالة على عظمة هذا الشرح وقوة أثره، فهو سبحانه المباشر لهذا الشرح بأمره، وقدرته سبحانه وهذا من دلائل التكريم للرسول صلى الله عليه وسلم فتأمل المجاز المرسل بعلاقة المحلية في قوله سبحانه “نشرح لك صدرك” حيث أضيف الشرح إلى الصدر والمراد القلب، وفيه دلالة على المبالغة في شرح صدره صلى الله عليه وسلم لدينه ودعوته، لأن اتساع الصدر يتبعه اتساع ظرفه، كما يقول الشهاب الخفاجي، وهذا يتناسب مع التعبير بنون العظمة في الفعل “نشرح”.
إبهام وتشويق
ومن ملامح التكريم للرسول صلى الله عليه وسلم ذكر الجار والمجرور “لك”، حيث كان يمكن أن يقال: “ألم نشرح صدرك؟ فذكر الجار والمجرور فيه زيادة احتفاء وتكريم.
وفي تقديم الجار والمجرور “لك” على المفعول “صدرك”، لفتة لطيفة هي المسارعة الى إدخال المسرة والبشرى في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما فيه تشويق الى المؤخر المشروح “الصدر” فإنه لما ذكر فعل الشرح “نشرح” علم أن ثم شيئا مشروحا، فلما تقدم المجرور “لك” اشتد الابهام فازداد التشويق، فأثار هذا في النفس ترقبا وتشوقا الى معرفة هذا المشروح فلما وقع بعد المجرور قوله “صدرك” تعين المشروح فتمكن في الذهن والنفس كمال التمكّن.
وفي قوله: “ ووضعنا عنك وزرك” قدّم المجرور على المفعول للبيان بعد الابهام وغرضه الاثارة والتشويق كما في الآية السابقة. والمراد بالوزر في الآية الحمل الثقيل وهو صغائر الذنوب، التي فعلها النبي باجتهاده وعوتب على بعض منها كأخذه الفداء من اسرى بدر، وعبوسه في وجه الأعمى.
وفي قوله: “الذي انقض ظهرك” استعارة تمثيلية، حيث شبهت صغائر ذنوبه صلى الله عليه وسلم بحمل ثقيل يرهق الكاهل حتى انه تُسمع لعظام ظهره فرقعة وصوت. وقوله: “ووضعنا” ترشيح لهذه الاستعارة البديعة التي صورت أثر صغائر ذنوبه صلى الله عليه وسلم على نفسه الشريفة، تلمس ذلك في قوله “أنقض” فالانقضاض صوت المفاصل، وصوت صرير الرحل والمحمل، وقد قامت الاستعارة على حاسة السمع، ولنتأمل كيف تعاونت الحروف بمخارجها في ابراز أثر تلك الصغائر على نفسه صلى الله عليه وسلم، واقرأ قوله: “أنقض ظهرك” وتأمل تعاقب حرفي الضاد والظاء وهما متقاربا المخرج، فمخرج الضاد حافة اللسان، ومخرج الظاء طرف اللسان مع صفحة الثنايا العليا، ثم حاول النطق بهما مرات عدة “أنقض ظهرك” “أنقض ظهرك” “أنقض ظهرك” ألا تحس شيئا من ثقل لسانك؟ اظن ان هذا الثقل في النطق جاء متجاوبا بل ومحاكيا لمعناه أتم المحاكاة، فالذنوب على صغرها ثقل على الظهر، يرهق عظامه، وثقل على اللسان حتى يكاد يتلعثم في النطق بها، نشأ من تداخل مخرج الحرفين، وهذا وربي مما لا يخل بفصاحة الآية أو بلاغتها، بل هو آية اعجازها، لكون كلماتها بحروفها ومخارجها من الكلمات الواصفة الكاشفة لمعناها.
وفي تقديم الجار والمجرور “لك” ما في الآيتين السابقتين من الايضاح بعد الابهام، ولا يخفى لطف ذكر الرفع بعد الوضع وأرى والله اعلم ان في ترتيب هذه الآيات ترقيا في العطاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعد كريم
وفي قوله سبحانه: “فإن مع العسر يسراً * إن مع العسر يسرا” وعد كريم من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بكشف كل غمّ يعترضه، وازاحة كل عسر من طريقه، وذلك تأنيس لقلبه الشريف، وتسرية عنه عما انتابه من احزان، ولعل هذه الآيات تكشف لنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في عسرة وضيق ومشقة، ولذا كان الحرص على التأكيد بمجيء اليسر بعد العسر، والفرج بعد الشدة، وفائدة التأكيد تحقيق اطراد هذا الوعد وتعميمه.
وقد أكد هذا بتكرار الجملة الثانية “إن مع العسر يسرا” وب “إن” في صدر الآية. ونكر “يسرا” ليدل على التعظيم، كأنه قيل: سيعقب عسرك يسر عظيم لا يدرك كنهه أو مداه إلا الله تعالى.
والتفت الزمخشري الى وجه استعمال “مع” في الآيتين بدلا من “بعد” فقال: “إن” مع “للصحبة” ومعنى اصطحاب اليسر والعسر ان الله أراد ان يصيبهم “المؤمنين” بيسر بعد العسر، الذي كانوا فيه بزمان قريب، فقرّب اليسر حتى جعله كالمقارن للعسر زيادة في التسلية وتقوية القلوب”، وقد اصاب الزمخشري ابلغ اصابة في الكشف عن سر استعمال (مع).
وأزيد على ما قاله الزمخشري بيانا بأن “مع” في الآيتين مجازية غير مستعملة في حقيقة معناها، لاستحالة اقتران العسر واليسر، لانهما نقيضان “فهو إذا استعارة، حيث شبه التقارب بالتقارن فاستعير لفظ “مع” لمعنى “بعد”.
أرأيت كيف افسحت “مع” الأمل والبشرى في قلب الرسول صلى الله عليه وسلم بالاشارة الى ان ازالة عسره صلى الله عليه وسلم وعسر صحابته، واقعة لا محالة؟ أرأيت كيف اشعر حرف المصاحبة “مع” بتلاشي الزمن بين العسر الذي يعرض للرسول صلى الله عليه وسلم وبين اليسر الذي يعقبه بل ويطارده حتى لا يبقي له أثرا في نفس النبي صلى الله عليه وسلم ، ألا يوحي هذا كله بأنه “صلى الله عليه وسلم” في كنف ربه ورعايته وبأنه غير متروك لأحزانه؟ ولا تفوتني الاشارة الى ان لفاء بدلالتها على التعقيب الذي لا ينفك عنها في قوله تعالى: “فإن مع العسر يسرا” قد اسهمت في الاسراع بقذف البشرى في قلب الرسول صلى الله عليه وسلم بإزالة عسره.
الزاد الحقيقي
وفي قوله: “فإذا فرغت فانصب” اختلف المفسرون في تعيين متعلق الفراغ والنصب، وأنسب الأقوال فيما أرى وأقربها الى سياق السورة قول الزمخشري “فإذا فرغت من عبادة فأتبعها أخرى” وهذا التأويل يتناسب وخصوصية السورة، وخصوصية العطاء والبشرى للرسول صلى الله عليه وسلم كما أنه يشير الى أن في العبادة زاداً ومعيناً يتقوى به الرسول صلى الله عليه وسلم على عبادة أخرى لله تعالى.
والآية ترسم للنبي صلى الله عليه وسلم وللدعاة من بعده المنهج القويم لقضاء الأوقات، وتصريفها في طاعته سبحانه ولا تظن ان المراد بالعبادة الصلاة فقط بل العبادة شاملة لكل عمل يبتغي المسلم به وجه ربه تعالى، ولعل هذا وجه حذف المتعلق حيث قصد به العموم.
وتأمل ايثار “إذا” الظرفية هنا وما فيها من دلالة على وجوب أداء العبادة على أكمل وجه، وألا ينتقل منها الى غيرها الا بعد اداء حقها كاملا، يعينك على هذا الفهم ما تدل عليه مادة “فرغ” من الخلو بعد الامتلاء.
ولنتأمل ما دل عليه ترتيب الجواب على الشرط في قوله: “فإذا فرغت فانصب” من المسارعة وكيف أوحى هذا بوجوب اغتنامه صلى الله عليه وسلم لكل أوقاته بحيث لا يترك وقتا ممتدا يشغله عن عبادته لله تعالى، والمعنى كما يقول الطاهر بن عاشور: “إذا أتممت عملا من مهام الأعمال فأقبل على عمل آخر بحيث يعمر أوقاته كلها بالأعمال العظيمة”.
انبه ثانية إلى أن الآية الكريمة اشارت الى ان العبادة هي الزاد الحقيقي الذي يتقوى به الانسان على التدرج في مراتب الطاعة لله تعالى، وكأني بالآية توحي بأن التزود بالعبادة والطاعة لله تعالى هو المعين الروحي الذي يواجه به الرسول صلى الله عليه وسلم والدعاة من بعده كل المشاق والصعاب والفتور على ما توحي به كلمة “النصب” من معنى الجهد والتعب. ولا تفوتني الاشارة الى ما دل عليه اسلوب الشرط في قوله “فإذا فرغت..” وكيف أنه ربط السبب بالمسبب، وكأن ما ذكر من الفيوضات الربانية، والمنح الإلهية للرسول صلى الله عليه وسلم كان بمثابة مسوغات لاجتهاده في العبادة صلى الله عليه وسلم والشكر لربه تعالى على عطائه الكريم له صلى الله عليه وسلم.
من الأسهل إلى الأصعب
وأومأ الربط بالفاء في قوله “فإذا فرغت فانصب” إلى وجوب المبادرة بإيلائه العمل بعمل آخر، وحذف متعلق الفعل، لقصد العموم، ليشمل كل عمل يرغبه النبي - صلى الله عليه وسلم - وما يرغب النبي إلا في الكمال النفساني وانتشار الدين، ونصر المسلمين.
والوجه في تقديم “فإذا فرغت” على “فانصب” هو الترقي من الأسهل الى الأصعب مما فيه مشقة وكد وتعب وجهد، ولعل هذا ما يناسب همة الحبيب صلى الله عليه وسلم في دعوته وعبادته .. تلك الهمة التي لا يعتريها فتور، ولا يستبد بها كسل أو ملل والله اعلم.
وتأمل القصر بالتقديم في قوله “وإلى ربك فارغب” وكيف دل على تخصيص رغبته صلى الله عليه وسلم على ربه تعالى، بحيث لا تتعداه الى سواه سبحانه ولعل هذا التأويل يبين لنا وجه ايثار لفظ “رب” واضافته الى ضميره صلى الله عليه وسلم وكأن في هذا تذكيرا أو حافزا له عليه الصلاة والسلام للاقبال على ربه تعالى دون غيره سبحانه.
وارقب تعدية هذا الفعل (فارغب) بحرف الانتهاء (الى) وكيف أشار الى وجوب اقباله صلى الله عليه وسلم وتوجهه الى ربه اقبالا حثيثا، فيه توفر همة وعظيم نشاط، كما دلت تعدية الفعل بحرف الانتهاء الى أنه تعالى دون غيره ينبغي ان يكون الغاية والمقصد والهدف والمرتجي لكل سالك في طريق الدعوة اليه سبحانه وهذا المعنى يتسق وما يدل عليه الفعل (فارغب) اضافة الى ما أفاده تقديم المجرور في معنى الاختصاص كما سبق.
بقي أن أشير الى ان ربط الآية بما قبلها بالواو “هو الذي يطرد به النسق، وتتم وحدة السياق في السورة كلها فتتعلق رغبة المصطفى بالله وحده، الذي أفرغ بال رسوله مما كان يشغله من ضيق الصدر، ووضع عنه الوزر الذي انقض ظهره، وبشره بيسر قريب على وجه اليقين الذي لا شك فيه” فالواو في الآية بمثابة الخيط الجامع الذي اشتبكت به معاني السورة كلها والله اعلم.
| |
|